إسرائيل و"النصف شيكل"
أتذكر حينما كان للنصف شيكل قيمة كبيرة في حياتنا، حيث أنه كان يسوى الكثير عندما كنا أطفال.. وقضينا الكثير من الوقت في الصف ونحن نظلل تلك الالة الموسيقية الغريبة بقلم رصاص على ورقة وضعناها فوق العملة بكل دقه.. ولكنه فقد قيمتة السوقية مؤخرا ولم نعد نحن نراه بنفس العين الطفولية.
ولكن ما هي قيمة النصف شيكل بالنسبة لإسرائيل؟
كما هو حال كل ما يمثل إسرائيل من رموز وصور وشعارات مقتبسة من تاريخ ألفه الكيان العبري كما يروق له، نجد أن لعملة النصف شيكل قصة تجسد حال الكيان بأكمله.
تبدأ القصة في عام ١٩٨٠ حين قام تاجر اسرائيلي مهووس بجمع الأختام الاثرية يدعى روبين هشث بالتبرع بختم نادر الى متحف اسرائيل، يحمل نقشاً لآلة القيثارة ونصا باللغة العبرية القديمة يقول: "يعود لِ مادانا، بنت الملك". انقلبت إسرائيل رأسا على عقب. تسارع علماء الاثار الإسرائيلين في تفسير الختم -مع الأخذ بعين الإعتبار أن شين كان قد إشتراه من أحد محلات الآثار (إسرائيل تجيز التجارة بالقطع الاثرية ولكن هذا موضوع ليوم اخر) من دون أي معلومات عن المكان الذي وُجد فيه الختم (هذا يقلل من قيمة الاكتشاف حيث أنه يجرد القطعة الأثرية من سياقها التاريخي ويترك المجال للتخمين). أجزم العلماء أن الختم يعود للقرن السابع قبل الميلاد، الحقبة التى تدعى "حقبة مملكة يهودا" حسب التوراه، وهي الحقبة التى يزعمون أن بناء الهيكل المفترض حدث خلالها. أجزم العلماء أيضا أن الختم يعود لأميرة يهودية تسمى مادانا، بنت الملك (لا شئ أكثر من النصف المنقوش، كلا؟). استغرب العلماء من غموض هويتها: فلم يذكر اسمها في التوراة ولم يذكر اسم اباها (الملك) على الختم. من هي إذا؟
لا يهم. المهم أن الختم "أثري" ومنقوش بالعبرية. احتفل متحف اسرائيل بكنزه الجديد في حفل خاص افتتح خلاله معرض دائم عن النصوص والنقوشات العبرية "والتى هي دليل مادي نادر يمثل العصر الذهبي (عصر الهيكل) في تاريخ اسرائيل."
في عام ١٩٨٤، كانت إسرائيل تعاني من التضخم المالي وقررت أن تعتمد الشيكل الاسرائيلي الجديد. قام البنك المركزي باستدعاء لجنة مكونة من علماء آثار، علماء نقديات أثرية، وعلماء في التوراة، لإختيار التصاميم الجديدة للشيكل. حظيت العملة الذهبية الكبيرة، النصف شيكل، بشرف ختم مادانا. (من الجدير بالذكر أن العلماء الاسرائيلين يدعون أن كلمة "شيكل" كلمة عبرية قديمة مستوحاة من التوراة وهي كلمة ترمز الى وزن نقدي، ولكنها في الأصل تعود الى اللغة الأكادية القديمة في بلاد ما بين النهرين منذ ما يقارب ٣٠٠٠ عام قبل الميلاد).
بينما كان بنك إسرائيل يحضر لإطلاق العملات الجديدة ويصيغ النصوص التى تبرر انتقاء الرموز المختلفة ومدى أهميتها كأدلة على التاريخ اليهودي، جائت باحثة آثار مختصة بالآلات الموسيقية تدعى باثا باركاي بمعلومات صادمة للبنك: ختم مادانا هو ختم مزور. بررت باركاي تفسيرها بثلاث اسباب رئيسيه:
١. رسمة القيثارة غير منطقية وغير متناسبة مع الالات الموسيقية في العصور القديمة، ورجحت أن القيثارة كانت سوف تقع لو تم العزف عليها بالشكل المنقوش في الختم.
٢. جوسيف فلافيوس، مؤرخ يهودي مختص بالحقبة المذكورة، كان قد أشار الى وجود قيثارة في الهيكل، ولكن جل ما قاله فلافيوس معرض للشك حيث أنه عاش بعد الحقبة المذكوره ب ٧٠٠ عام ولا يوجد دليل على صحة أي من أقواله.
٣. تقول بايار أيضا أنه من المستحيل نشر إسم أميرة في القدس في العام السابع قبل الميلادي مع الة موسيقية، حيث أن النساء اللواتي كان يعزفن على الالات الموسيقية في الأغلب جواري غانيات.
لم يكترث البنك لما قالته بايار واستمر في طباعة عملات النصف شيكل وتوزيعها في السوق ابتدائا من العام ١٩٨٥. حاولت أن تتحدث مع العالم افيجاد، أهم خبير أختام في اسرائيل في ذلك الوقت، حيث أنه هو من أقر بأهمية الختم، ولكنه رفض اللقاء بها. كذلك الأمر رفضت "مجلة استكشاف اسرائيل" نشر مقالها حول الموضوع. وعندما ألقت بايار محاضرة حول الموضوع خلال مؤتمر في فرنسا، تم وصفها بالخائنة لتشكيكها بالتاريخ اليهودي.
أخيرا، أشار ارون كمبينسكي، رئيس رابطة علماء الاثار في اسرائيل، في مقال مقتضب في جريدة القدس العبرية الى صحة اكتشاف بايار، وأيده العديد من العلماء، حتى قررت ادارة متحف اسرائيل بسحب الختم من المعرض في عام ١٩٩٣ من دون أي اعلان عن السبب.
البحث الكامل في الموضوع أجرته New Republic على هذا الرابط:
أترك التعليق لكم... ولكني أود الاشارة الى شئ مهم. بينما تصارع اسرائيل التاريخ بحثا عن أدلة زائفة تألف من خلالها تاريخ يربطها بأرضنا، نصارع نحن من أجل البقاء. ولكن أحد أهم مقويات البقاء هي المعرفة بالتاريخ والحفاظ عليه. في سبيل المقارنة أعرض عليكم هذه المعلومة: كانت مدينة غزة من أول مدن الشرق القريب-القديم التى صكت نقودها الخاصة في القرن الخامس قبل الميلاد. لا نحتاج لتأليف الحقائق وادعاء التبريرات، فالدليل موجود أمامنا: هذه بعض الصور لعملات غزة المسمية بPhilisto- Arab وهي تعود لحقبة الحكم الفارسي (الأخمينية) في غزة. كانت مدن عسقلان وإسدود أيضا تنتج عملات مشابهة في نفس الحقبة، وكان هذا بداية تحول نوعي في اقتصاد وتجارة افلسطين القديمة وتحول النظام النقدي من قطع فضة صغيرة الى نقود وعملات. متى نُدرك هذه الحقائق الموثقة حين نتحدث عن تاريخنا ولا نكتفي فقط بالاشارة إلى الجنيه الفلسطيني أو الليرة الفلسطينية؟
Gaza: from Sand and Sea أمثله من عملات غزة القديمه. المصدر: